الخطبة الأولى :هل تعرفون الموت – ماذا تعرف عنه ؟

الحمد لله الذي حكم على كل مخلوق بالفناء ، واستأثر لنفسه خاصة بالبقاء ، أحمده سبحانه - وأشكره - على تتابع النوال والعطاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الكمال المطلق في الذات - والصفات والأسماء ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، سيد المرسلين ، وإمام الحنفاء ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الجزاء.
أما بعد : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ).
أيها المسلمون: هل تعرفون الموت ؟ نعم ، هل تعرفون الموت ؟ قد يقول قائل: وهل عاقل يسأل - مثل هذا السؤال ؟! وهل ثمة أحد لا يعرف الموت ؟! بل هل في الدنيا - من ينكر الموت - حتى - من غير المسلمين ؟! أما الموت - الذي هو توقف الدم - وخروج الروح من الجسد ، وانقطاع النفس - وخمود الحركة - وهمود الأعضاء ، ومغادرة الدنيا إلى حياة أخرى ، فكلنا قد رآه وعرفه ، إذ ما منا أحد ، إلا وقد مات - خلق كثير من أقاربه - وأحبابه - وجيرانه - وزملائه ، ولكن قلة من الناس قليلة -وندرة نادرة ، هم من يعرفون الموت المعرفة الحقيقية ، المعرفة التأملية العميقة ، التي تؤثر في النفوس- تأثيرا نافعا ، يغير مجرى الحياة - ويعدل الأخلاق ، ويضبط السلوك - ويزن التعامل ، ويوجه الأخذ - والعطاء ، بل ويوجه مسيرة الحياة - بشكل عام ، لتكون خواتيم الأعمال - هي الهم ، ومآلات الأمور - هي الشغل الشاغل ، ونتائج الأفعال - والتصرفات - على ذكر من القلوب ، بدلا من العيش - في لحظات - آنية وقتية ، والاستغراق - في مواقف لماعة - تؤججها - مشاعر خداعة ، أو الغوص في بحور -من الغفلات المستغرقة ، وسلوك سبل الضياع الملتوية ، والبعد عن صراط الحق المستقيم ، والميل عن جادة النجاة الواضحة.
الموت - يا عباد الله - هو قاهر المتكبرين ، ومرغم أنوف المتغطرسين ، وقاطع جهل الجاهلين ،أذل رقاب الجبابرة ، وكسر ظهور الأكاسرة ، وقصر آمال القياصرة ، يتهربون منه ويتجاهلونه ،حتى إذا أدار عليهم الدائرة ، أخذهم بيده القاهرة ، وقذفهم في ظلمات الحافرة ، وما هي إلا زجرة واحدة - فإذا هم بالساهرة ، قد خسروا الدنيا ولم يحصلوا شيئا من الآخرة ،
أجل - أيها الإخوة - يعيش الغافلون عن الموت ما عاشوا ، يخبطون في دنياهم خبط عشواء ، مقصرين في الحقوق ، غير مهتمين بالواجبات ، ولا متجنبين للمحرمات ، يتكبرون ويتبخترون ، ويظلمون ويكذبون ، ويغشون ويخادعون ، ثم لا يشعر أحدهم - إلا وقد هجم عليه الموت بغتة ،وأدركه هاذم اللذات - وهو بين أهله ، فانتزعه من حضن زوجه ، وحرم منه بناته وبنيه ، وأفقده قومه ومحبيه ، وهناك - تتلاشى قوته ، وتغيب عنه سلطته ، وتتفرق عنه زمرته ،( ويتخلى عنه من كان يخادعه - ويؤزه إلى الشر أزا ) ، ( ولا يظهر له حينئذ - وقد أيقن بالرحيل ) ،إلا مواقفه المخزية - التي أكل فيها الحرام ، أو شهد فيها بالزور ، أو جامل القبيلة والعشيرة - ومالأهم على الظلم ، أو احتقر فيها الضعفاء - وسخر بالفقراء ، أو ضرب وشتم واعتدى ، أو كتم أو كذب وافترى .
سؤال / هل جلستم في مجلس فذكر فيه - واحد من الأموات أو عدد منهم ؟! لا شك أن مثل هذا الموقف - قد مر على كل واحد منا - عدة مرات ، فهل كان حديث الناس عن الأموات واحدا ؟ لا والله ، فمنهم - من ذكروه - فدعوا له ومدحوه ، وأثنوا عليه خيرا - وزكوه ، وترحموا عليه - بل وبكوه ، ومنهم - من دعوا عليه وذموه ، وعابوه بل وانتقصوه ، وثمة - من لم يزيدوا على أن قالوا عنه : ربنا وربه الله. .. وكم تحمل - هذه العبارة - من المعاني لمن كان يعقل ، وتدل على أن الناس - قد اكتووا بشيء - من ظلم هذا الميت لهم ، ولكنهم الآن - لا يملكون أن يعيدوا - مما فات شيئا ، وقد تكون بينهم وبينه - صلة رحم - أو رابطة قرابة ، فأدركتهم - لحظة رحمة له - وشفقة عليه ، فآثروا عدم نشر سوءاته ؛ ولكنها والله - لن تغني عنه عند الله شيئا - إن كان قد ظلم ، ولن تنفعه شيئا - إن كان قد بخس ، ولن تنجيه إن كان - قد تعدى وتجاوز ؛ إلا أن تدركه - رحمة من الله - ( ويعفو عنه خصماؤه وغرماؤه ) ،
وما أصعب العفو في يوم عظيم ، يفر المرء فيه من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، ويتمنى أن له حسنة عند أقرب الناس إليه - فيفتدي بها من العذاب ؛( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ).
ألا فلنتق الله - أيها المسلمون - فإن الموت حقيقة لا مفر منها ، ومصيبة واقعة بكل واحد منا - طال العمر - أم قصر ، فعائد بعده - إلى ربه ومولاه ، فمحاسب - على كل ما اكتسبت يداه ؛ ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون * وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) ، ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) .
إن أعقل الناس وأحسنهم خلقا - وأقومهم طبعا ، هم أكثرهم : للموت ذكرا ، وأحسنهم لما بعده استعدادا ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فــجاءه رجل من الأنصار - فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : يا رسول الله ، أي المؤمنين أفضل ؟ قال : “ أحسنهم خلقا” قال: فأي المؤمنين أكيس ؟ قال:” أكثرهم للموت ذكرا ، وأحسنهم لما بعده استعدادا ، أولئك الأكياس“( رواه ابن ماجه وحسنه الألباني ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم ، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم .
*** *** ***
الخطبة الثانية : -
الحمد لله العلي الأعلى ، الذي خلق فسوى ، وحكم على خلقه بالموت والفناء ، والبعث إلى دار الفصل والقضاء ، لتجزى كل نفس بما تسعى ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه - ومن بهداهم اقتدى ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، فاتقوا الله تعالى - وأطيعوه ولا تعصوه ) ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( ،
( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) ، ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ). يا عبد الله :
( الأماني - والآمال - والأحلام )، والرغائب التي كنت تتمناها - في هذه الدنيا ، المستقبل الذي كنت تبنيه ، هل صارت كلها - أمام عينيك - واقعا - ملموسا ؟ هل رزقت المال ؟ وسعدت بالبنين ؟
هل بلغت من الجاه والشهرة - مبلغا ؟ هل تنقلت في الأرض - شرقا وغربا ؟ هل أشير إليك بالبنان - وغدوت أهم إنسان ؟ هل ملكت الضياع - والدور - وسكنت القصور ؟
هب أن ذلك كله قد حصل ، أو كان لك منه - ما كان ، فسيبقى سؤالنا أمامك : هل تعرف الموت ؟! نعم ، هل تعرف الموت ؟!
إنه سيجعل كل ذلك - وكأن لم يكن منه شيء ، فيا لها من مصيبة - لا يجبر مصابها ، ولا تنقضي آلامها - ولا أوصابها ، إن كنت - قد نلت ما نلت من دنياك - وعمرته - على حساب ضياع دينك وهدمه!
يا تائها في دنيا الغرور: إن الموت - يقطعك من القبيلة ، ويحول بينك - وبين العشيرة ، وينقلك - من حياة المجاملة - والتناصر بالباطل ، إلى حياة - تنظر فيها - إلى ما قدمته أنت ، ولا تجد - إلا ما أسلفته أنت ، في حياة - كل نفس فيها - بما كسبت رهينة ؛ ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا(
فيا مسرورا - بما فتح عليه من الدنيا ، نسب وحسب ، ومال ونشب ، وجاه عريض - ومنصب كبير ، دعتك بمجموعها - إلى الفخر والتعالي - والتكبر - وظلم الآخرين ، اجعل الموت - نصب عينيك ، فقد يكون - هو نهاية غرورك - وخاتمة سرورك ، وقاصمة ظهرك - وقاطع أمرك ، ومبدأ عذاب لك شديد.
ويا ضائقا صدره بالحياة - لما بلي به - من ظلم وقع عليه ، أو مرض - اشتد به ، أو فقر طال - أو هم أرقه ، أو عقوق ولد - أو هجر قريب ، تذكر الموت ، نعم ، تذكر الموت ،
فــلـربما - كان هو مفتاح السعادة الأبدية ، والباب الذي تدخل منه - إلى الراحة السرمدية ، ومخلصك - من الشقاء والعناء ، وبداية النعيم المقيم لك - في جنة عرضها السماوات والأرض ، قال - عليه الصلاة والسلام-: “ ( أكثروا ذكر هادم اللذات - الموت ؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش - إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة - إلا ضيقها عليه“( رواه ابن حبان وحسنه الألباني. وكان من دعائه - عليه الصلاة والسلام - كما في صحيح مسلم : “واجعل الموت راحة لي من كل شر “.
أيها المسلمون : إن القصاص قبل الموت - أهون منه بعده ، فمن كان عنده مظلمة لأخيه - من مال - أوعرض، فليتخلص قبل الموت ، وليتخفف قبل الموت ، وليعد إلى أخيه - ما سلبه منه - قبل أن يعيده إليه الموت ،
والله - لو عرفنا الموت - حق المعرفة - وتذكرناه كما ينبغي ، لما قصرنا في أداء الصلوات ، ولما هجرنا الجماعات ، ولما أتينا منكرا - ولا زورا - ولا منعنا حقا - ولا غشينا فجورا ،
أين من الموت - من عق والديه ؟ أين من الموت - من قطع رحمه ؟ أين من الموت - من آذى الجار وجار؟ أين من الموت - من مال مع إحدى زوجاته ؟
لو تذكر كل منهم - أن الحق سيؤخذ منه بعد الموت - رغما عنه ، لكان له شأن آخر.
ألا فلنتق الله - عباد الله -؛ ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) .
ثم ٱعلموا عباد الله .. أن الله أمركم بأمر عظيم ، أمركم بالصلاة والسلام على نبيه الكريم فقال :
﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ،
فـاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والمبشرين بجنة النعيم ، وآل بيته الطاهرين ، وعن الصحابة أجمعين ، و عن التابعين ، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم اجعلنا ممن استمع القول فاتبع أحسنه ،
اللهم بعلمك الغيب - وقدرتك على الخلق - أحينا ما علمت الحياة خيرا لنا - وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرا لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة - وكلمة الحق في الغضب والرضا ،
ونسألك القصد في الفقر والغنى , ونسألك نعيما لا ينفد - وقرة عين لا تنقطع .
ونسألك الرضا بعد القضاء ، ونسألك برد العيش بعد الموت ، ونسألك لذة النظر إلى وجهك ،
ونسألك الشوق إلى لقائك - في غير ضراء مضرة - ولا فتنة مضلة ،
اللهم زينا بزينة الإيمان - واجعلنا هداة مهتدين .
اللهم وفق إمامنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك ، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام ..
اللهم إنا نعوذ بك ( من قلب لا يخشع ،، ومن عين لا تدمع ،، ومن أذن لا تسمع ،، و من نفس لا تشبع ،، و من علم لا ينفع ،، و من دعاء لا يسمع ،، و من صلاة لا ترفع ) .
عباد الله ..
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والـمنكر والبغي ،يعظكم لعلكم تذكرون ).
اذكروا الله العظيم (يذكركم ) - وٱشكروه ( يزدكم )، وٱستغفروه ( يغفر لكم ) - ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون ،
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .