خطبة بعنوان : ففروا إلى الله

الحمد لله المتصف بالجلال – والجمال – والكمال ، المنزه عن النظراء والأشباه والأمثال ، قيوم لا ينام ، عزيز لا يرام ، ملك لا يضام ، نحمده حمد الشاكرين ، ونستغفره استغفار التائبين ، ونسأله من فضله العظيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ ذكره سبحانه – فرح القلوب- وطمأنينتها ، وانشراح الصدور- ورحابـتها ، وأنـس النفـوس – وسلـوانها ، لا يذكـره حق ذكره مهموم – إلا تبـدد همه ، ولا مكروب – إلا زال كربه ، ولا خائف – إلا ذهب خوفه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ” كان يذكر الله – على كل أحيـانه ” ويتـفكر في آياته وآلائـه ، ولم يـشـغله عن ذكـره تعـالى – جهاد أعدائه ، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله … أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، حيث أمرنا في كتابه الكريم فقال: ﴿ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾، وجعل الضمان النفسي والمعيشي – في التقوى ، فقال سبحانه:
﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ، وأعطانا الضمان لأولادنا من بعدنا – في التقوى والقول السديد ؛ فقال جل شأنه: ﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) .
عبد الله … وأنت تقرأ سورة الذاريات ، ترتل آياتها ، وتتدبر معانيها ، في نسق متسلسل بديع ،وانتقال بين المشاهد سريع ، و أسلوب عجيب ، وترغيب وترهيب ، عجب من القول عجاب ، يكاد يذهب بالألباب.
فتبدأ بقسم ببعض مخلوقات الله تعالى – العظيمة ، على صدق يوم – لا ينفع فيه إلا القلوب السليمة ، ثم آيات معدودات – توضح قرب المسافة – بين منظر الكافرين وهم يكذبون ويستهزءون ، وبين أن يقال لهم:
( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) .
ثم آيات – تصف باختصار – نعيم المتقين ، بسبب ما كانوا عليه من العمل واليقين ، ثم قصة الضيفان – مع نبي الله إبراهيم ، وبشارتهم له – بولد عليم – من زوج عقيم ، وهلاك قوم لوط – بسبب الفعل الأثيم ، ثم تسرد الآيات – مناظر من هلاك الأمم الكاذبة ، وما حدث لهم – بسبب الكفر من سوء العاقبة ، ثم في ثلاث آيات معجزات ، خلق السماوات والأرض والكائنات .
ثم تأتي الآية الخمسون – وفيها قوله – تعالى-: ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) ؛ فعندها – ينعقد اللسان – عن القراءة و الترتيل ، ويحتار الجنان في – روعة بلاغة التنزيل ، ويأتي السؤال – الذي فيه – العقول تحتار ،
لماذا سمي الرجوع إلى الله تعالى – فرارا ؟
أيها الأحبة : إذا عرف الإنسان – المهالك والمخاوف و المكاره – فيما سوى الله ، و ذاق الهلع والجزع والقلق – بعيدا عن الله ، سيعلم حينها يقينا – أنه لا نجاة – ولا أمان ، ولا سعادة – ولا اطمئنان ، إلا بالرجوع إلى العزيز الرحمن ، فيأتي سؤال – ليجيب عن السؤال : ماذا يسمى الرجوع – إلى الله تعالى – من هذه المهالك والمخاوف ؟، وماذا يسمى الرجوع من الهلاك المحقق – إلى بر الأمان ؟، أليس هذا الرجوع يسمى فرارا ؟ .. بلى و الله .
وكذلك لا فرار من الله تعالى – إلا إليه ، كما جاء في حديث النبي صل الله عليه وسلم في دعائه قبل النوم : “اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت “.
فيا أيها الخائف – من الرزق – والحاجة والفقر ، ويخشى الغلاء – وقلة الدخل – وتقلبات الدهر ، انظر إلى السماء ، واسمع لهذا النداء: ( يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقغير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون )،
فالفقر وإن جاء – فلا خوف – على هذه الأمة منه ، كما قال – عليه الصلاة والسلام -: “ والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى – أن تبسط عليكم الدنيا – كما بسطت – على من كان قبلكم ، فتنافسوها – كما تنافسوها ، وتهلككم – كما أهلكتهم“ ، بل الخوف – من الغنى وكثرة الأموال – وانفتاح الدنيا ، كما قال – تعالى : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ).
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد *** عسى نكبات الدهر عنك تزول
فإذا خفت من رزقك وأردت النجاة ، فتذكر قوله تعالى : ( ففروا إلى الله ).
وإذا هاجمك – شبح الأحزان والهموم ، وتكالب عليك – رعب الحسرات والغموم ، فتذكر أن لك ربا – هو الحي القيوم ، ناداه عبد ضعيف فقير – من بطن حوت في المحيط ، ومن يظن أن ينجو هذا – والموت به محيط : ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )، فما هي النتيجة : ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم( ، وهل هي خاصة به ؟، لا و الله ، بل قال سبحانه بعدها: ( وكذلك ننجي المؤمنين ).
يا نفس لا تجزعي من شدة عظمت *** وأيقني من إله الخلق – بالفرج .
فإذا أقلقتك همومك – وأردت السعادة في الحياة ، فتذكر قوله – تعالى-: ( ففروا إلى الله ).
وإذا حاصرتك يوما – الأمراض والأوجاع ، وأصبحت أنت – والموت في صراع ، فتذكر ذلك العبد المريض – الضعيف المسكين ، الذي قضى مع الآلام – الساعات و الليالي والسنين ، فرفضه الناس – القريب و البعيد، إلا امرأته – و رجلين من أصحابه ، فلما طال به البلاء ، رفع رأسه إلى السماء ، وأحسن إلى خالقه النداء: ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين )،
فأتاه الجواب الفوري : ( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا ) ،
وهل هذه الرحمة خاصة به ؟، بل قال سبحانه – بعدها : ( وذكرى للعابدين ).
فيا أيها العباد : قد جاءتكم ذكرى من ربكم .. أن البلاء للعبد – والاختبار – هو نتيجة محبة العزيز الغفار ، قال – صلى الله عليه وسلم -: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم “،
فما الدنيا – إلا دار ابتلاء وعسر ، وليس لها إلا الاحتساب و الصبر ، وصدق القائل:
بنى الله للأخيار بيتا – سماؤه ** هموم وأحزان – وجدرانه الضر
وأدخلهم فيه – وأغلق بابه ** وقال لهم : مفتاح بابكم – الصبر
فإذا زاد عليك البلاء وأردت الهناء ، فتذكر قوله – تعالى :- )ففروا إلى الله ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم – أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع للمسلمين من كل ذنب – فاستغفروه – إنه هو الغفور الرحيم .
—————————————-
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، ما ذل – من التزم هداه ، وما خاب – من أمله ورجاه ، فهو من عباده قريب ، وهو للسائل مجيب ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ينصر من ينصره ، ويجير من به يسـتجير، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : أخي المسلم المحافظ : اتقي الله واعلم – أنك إذا أحسست بخوف على الإسلام و الدين ، وخشيت على إخوانك من المسلمين ، فتذكر قوله – تعالى -:
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ).
واعلم – أن الله تعالى – ما أنزل هذا الدين إلا ليبقى ، وما أنزل هذا الكتاب إلا ليرقى ، رضي من رضي ، وسخط من سخط ، قال -عليه الصلاة والسلام -: “ ليبلغن هذا الأمر – ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله – بيت مدر – ولا وبر – إلا أدخله الله – هذا الدين ، بعز عزيز – أو بذل ذليل ، عزا – يعز الله – به الإسلام ، و ذلا – يذل الله – به الكفر“.
فلا تغتر بما تراه أحيانا من ظهور الباطل ، ما دام أن قلوب أهل الإيمان على الحق ، : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ،
ولا يضيق صدرك – بمكر الأعداء لهذا الدين وأهله ، فقد حاول الأولون – فذهبوا وبقي الإسلام ، وصدق الله تعالى-: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ).
أتطفئ نور الله – نفخة كافر *** تعالى الذي – في الكبرياء تفردا
إذا جلجلت – الله أكبر في الوغى *** تخاذلت الأصوات – عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن – خابت جهوده *** وضاعت مساعيه – وأتعابه سدى
أيها الناس : هناك مسألة يجب توضيحها : الكل يعلم – أن يوم الجمعة – هو يوم واحد في الأسبوع – والكل يعلم – أن خطبة الجمعة أيضا – يوم واحد في الأسبوع – والكل يعلم – أن أغلب الناس – يجتمعون في هذا اليوم – للإستماع لخطبة الجمعة ،، لكن البعض – يبكر لها – وليس الكل – والبعض يشتاق لها – وليس الكل – والبعض – يعطيها حقها – وليس الكل – والبعض – يجتهد فيها – وليس الكل – والبعض – يعلم فضلها وأجرها – وليس الكل ،،
والبعض – يتأثر بكلام الله و رسوله – ويستفيد من الأحكام الشرعية والمواعظ – ويتمنى الإستزادة – وليس الكل …
والبعض يعلم – أن أي مجلس – فيه ذكر الله !! – تحفه الملائكة – وتستغفر لمن في المجلس وتدعو له – وليس الكل يعلم ذلك ..
هناك من لا يقرأ ولا يكتب – ولكنه يستفيد ويتعلم – مما يسمع – ويسعى للتفقه في أمر دينه – لكن البعض يحضر- لتسجيل حضوره فقط – ليس لطلب العلم – ولا للبحث عنه – يحضر – وهو شارد الذهن – وعلى قلبه غشاوة – وفوق كل ذلك – يتضجر – من خطبة الجمعة – سواءا كانت طويلة أو قصيرة – بالأمس أنهكه السهر في ليلتها و ضيع فجرها وحضر إليها وهمه – الدنيا و ماذا سيأكل ؟ وماذا سيشرب ؟ وأين سيذهب ؟ وماذا سيبيع ؟ وماذا سيشتري ؟ وكيف سيقضي يومه ؟؟ ليس لأجل أن يستفيد أو أن يتفقه – بالله عليهم – ماذا استفادوا من طول الخطبة – أو من قصرها ؟ هل استفادوا فقط – كيف ينتقدوا – ويكثروا من الكلام في غير محله !! وإذا سألتهم – ماذا قال آنفا ؟ ماذا قال الخطيب ؟ فلا تجد – إجابة مقنعة – وهم في غفلة من أمرهم !! ألا يعلم هولاء – أنهم سيحاسبون – وأنهم موقوفون وسيسألون ؟ لماذا يفرون من الله ويهربون – سواء وقت الاستماع أو بعد الصلاة مباشرة ؟؟ ألا يعلم هولاء – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد – ولكن يقبض العلم – بقبض العلماء – حتى إذا لم يبق عالما – اتخذ الناس رءوسا جهالا – فسئلوا فأفتوا بغير علم – فضلوا وأضلوا .
رواه البخاري
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:” خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع “؛ فقال أعرابي : كيف يرفع ؟!, فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته. ثلاث مرات “أخرجه/أحمد والطبراني. فإذا مات العالم ، ولم يستفد هؤلاء منه – وهم في الأصل – لا يبحثون عن علوم دينهم – في غير يوم الجمعة … فكيف سيعبدون الذي خلقهم – وأكرمهم – ونعمهم – وأطعمهم – وسقاهم – بما أمرهم به ؟؟… قال الله : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ ، لم يقل – ليلعبون ويأكلون ويشربون – قال الله – وهو موضوع خطبتنا اليوم – ( ففروا إلى الله ) – فما بال أقوام – يفرون من الله – يفرون من سماع كلامه و ندائه – يفرون من بيت من بيوته – يفرون – من كل ما يقربهم إليه – لابد أن يعلم هؤلاء – أن علاقتهم – بربهم ضعيفة – نعم – ضعيفة – و يوجد بها خلل عميق – وإذا لم يتداركوه – وجعلوا الشيطان – يستحوذ عليهم – كما قال الله :
( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون )
فــليعلموا – أنهم نسوا الله – فسينسيهم الله أنفسهم – و يحرمهم من عبادته و التقرب إليه – وسيهـيـنهم – بما كسبت أيديهم و ألسنتهم – فليحذروا – ويفيقوا من نومهم وسباتهم – و يجاهدوا أنفسهم – على الطاعة و العبادة – و الإستفادة مما يقال في خطبة الجمعة ،،،فـربما – حسن استماعه – و استفادته مما سمع – وقلبه حاضر – ثم عمل بما سمع ، فذلك قد ينجيه – من خزي الدنيا وعذاب الآخرة !!
فــساعة في الدنيا – في بيت الله – فيها ذكر و استماع ، أهون – من يوم – مقداره – ألف سنة مما نعد ، ونحن في زمن لابد فيه – أن نقبض على ديننا – ونحافظ على عقيدتنا – ونحقق الغاية التي لأجلها خلقنا ..
فإذا خفت على نفسك من الفتن ، و أردت الثبات ، فتذكر قوله تعالى-: ( ففروا إلى الله ).
ستبحثون عن الراحة – ولن تجدوها إلا في – الصلاة – ستبحثون عن الطمأنينة ولن تجدوها إلا في – ذكر الله – ستبحثون عن الثقة ولن تجدوها إلا – بـالقرب من الله –
ستبحثون عن السعادة ولن تجدوها إلا في – حب الله – ستبحثون وتبحثون – ولن تجدوا الحياة – إلا في الله وبالله ومع الله ،، ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ).
ثم صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه فقال عز من قال: ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ﴾ ،
فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين ، وآل بيته الطاهرين ، وعن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم اجعل في قلوبنا نورا وفي أسماعنا نورا وفي أبصارنا نورا…
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يسمع…
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها…
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان،
اللهم اشف جرحاهم وارحم موتاهم وسدد رميهم وبارك في جهودهم…
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم أصلح لهم بطانتهم يا ذا الجلال والإكرام… ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله ..
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والـمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون ). اذكروا الله العظيم (يذكركم ) – وٱشكروه ( يزدكم ) ، وٱستغفروه ( يغفر لكم ) – وٱتقوه – ( يجعل لكم من أمركم مخرجا ) ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .